Extraits du commentaire de texte de Samar ABDEL HADI, collège Elite de Beyrouth
(1er prix au concours général d’arabe 1999)
Publié avec l’accord de la lauréate
ينتمي هذا النص إلى فن المقامات، وهو فن يرتكز على سرد قصصي متسلسل الأحداث والحوادث، وغالبا ما تزينه الأسجاع، فتجعله أحب إلى الأسماع، وأقرب إلى الإقناع، وقمة في الخلق والإبداع. وعلى الرغم من أن مقامات الحريري هي أكثر ما عهدناها، فان ذلك لا يمنع أن لبيرم التونسي تجارب تقدمية في المقامات من الإجحاف والنكران أن نتجاهلها. وبيرم التونسي أديب وشاعر، لا يخفى عن علم عالم تجاربه وصولاته وجولاته بين مختلف الأمصار والأقطار العربية والغربية. فهو ابن بطوطة معاصر، حمل سلاح العلم والإصلاح، والثورة ضد الظلم، والاحتلال. وحض على الاستقلال والحرية. كما أن أسلوبه يتمتع بالجرأة، والسلاسة والطلاوة، ويخالجه النقد اللاذع المحبب لدى القارعة. أما ما يلفت انتباهنا في هذا النص، فهو طرح موضوع كان لا يزال خطوة جبارة آنذاك، وهو موضوع السينما وردة الفعل العربية بين قبول ورفض. وكأي موضوع جديد، قوبل بالاستحسان عند البعض وبالنقد عند البعض الآخر. لذا كان لا بد في هذه الدراسة المفصلة، التعمق في وسائل النقد اللاذع للسينما، وأخيرا تتسع الدراسة لتشمل ثورة الإنسان ولا سيما العربي التقليدي على كل ما هو جديد.
لعمري، ما شاهدت عنوانا أشد جمعا بين القديم والجديد كالذي نحن في صدده : المقامة السينماتوغرافية. حيث يجمع بين فن المقامة الذي رافق صولات وجولات عنترة بن عبس في مقامات الحريري، والذي روى مغامرات أبي الفتح الاسكندري في مقامات بديع زمانه الهمذاني، وبين فن السينماتوغرافيا وهي فن ولد في العصر الحديث. إلا أن ما يجمعهما هو أن كلاهما فن، تتذوقه العقول، وتتحسسه الألباب، وتستشفه الحواس. ومن هذا العنوان، نلحظ الحركة التقدمية في تناول الأدب العربي لمواضيع معاصرة.
أما ما بعد العنوان، فهو اليقين والبيان، يفتتح بيرم التونسي النص بقول لبخيت بن وعلان : « خلقت وجبلت. على بغض ما جهلت. ما لا أعلمه. لا أقع فيه. ولو كنت أشتهيه ». وهذا يوافق تماما قول من قال : الإنسان عدو ما يجهله، وكذلك بخيت بن وعلان فهو يكره كل ما لا يعرفه، ولا يتوق إلى معرفته. وما يجهله شيخنا هنا هو « السينماء » حسب قوله. فما كان ليطأها لو لا أن « جماعة من الأشقياء » حلفوا عليه.
منذ دخوله، زادت وساوسه، وأحس بالضيق، وشرع ينتقد الكراسي، والجمهور وطريقة جلوسهم، ووقوفهم كلما دخل عليهم أحد، وسكوتهم، وإقلاعهم عن التدخين. وقد بلغ الذروة في نقده عندما ذكر الأبيات الشعرية، فشبه الجمهور ببشر مجتمعين حول مائدة أو عند تقسيم عجل سمين. وهو هنا يوجه النقد للمجتمع الإنساني بشكل عام، وللمجتمع العربي بشكل خاص حيث لا يجتمع إلا على تقسيم الأنعام والأموال. وقد صدق الله العظيم في كتابه الكريم حين قال: »ويحبون المال حبا جما ».
عندها نوى مولانا بخيت بن وعلان أن ينتقم من هؤلاء الأشقياء، وأن يعلمهم أنهم على خطأ، وأن يهديهم إلى الصواب. ثم أحس بالضيق وبعدم الارتياح لهؤلاء الناس الذين حوله فتراه يخاف على نقوده من السرقة. إذ انه لا يثق بهؤلاء الجماهير، ويعتبرهم سارقين.
ومن نقده للجماهير ينتقل إلى نقد الممثلين، فيصفهم وصف الجاهل : « خيال »، كما أنه لم يع أهمية الكتابة التي تعرفنا بأبرز المشاركين في هذا الفيلم. فيقتصر عمل الممثل بنظره على أنه « خيال يترنح، ويقفز ويتأرجح ». من هنا نستخلص أن الممثلين والجماهير نكرة، لا معنى لهم بالنسبة له، يتحركون كالآلات أو »كالشياطين ». وهذه الصفات السلبية نابعة عن جهل وعدم معرفة. ويكمل بخيت بن وعلان انتقاده للجماهير، فيعتبرهم « شياطين »، « عفاريت »، ليسوا من بني الإنس، هم بنظره كفرة، فاسقون فاجرون، من ذي جنة. فما كان منه، بما أنه الشيخ الوقور الفقيه، إلا أن تفوه بمعوذات وكررها سبع مرات، حتى اشتعلت الأنوار وانقطع بث الفيلم, عندها آمن بقدرة هذه المعوذات في طرد العفاريت. ويعود فيتهم الممثلين بالكفرة الفجرة : « عتاة، دق الطبول والمزمار كما يفعل في الزار… لأحرقتهم… وما تركتهم ». ولكن سرعان ما يعي المسكين أنه وقت « الانتراكت » وأنه لم يفعل شيئا مشهو.
ومن نقده الممثلين، ينتقل إلى نقد زميله حيث نعته بالأحمق الغبي وقرن ذلك بالفرنجي غير العربي. وكأنما السينما منافية لتقاليد العرب، أو وكأن الفرنجة أغبياء والعرب هم وحدهم الأذكياء…
وصفوة القول، إن مولانا انتقل من نقد إلى نقد : نقد الجماهير، ثم نقد الممثلين، ونقد زميله، وكلها انتقادات مباشرة ولاذعة وساخرة ومضحكة وفارغة في مضمونها. إنما بيرم التونسي أديب أريب لا بد وأنه قد رمى إلى هدف من وراء ذلك.
وبما أنه من رجالات الأدب والسياسة، ومن دعاة ومناصري النهضة الاجتماعية، فهو لم يكتب مقامته هذه سدى أو لإملاء صفحات بيضاء… بل توسل من خلالها أهدافا سامية، ومآرب رفيعة ترمي إلى الإصلاح الاجتماعي والسياسي، والرقي بالمجتمع إلى ما هو أكمل وأحسن وأنجع وأنجح. وان تم ذلك بأسلوب خفيف، يراوح بين الجد والهزل، بأسلوب سهل ممتع لا بد وأن يخطف الابتسامة من شدقي القارئ … إلا أنه ثمة أهداف من الإجحاف أن نتجاهلها. فلقد استعان بشخصية، وأضفى عليها بريشة الفنان الكاريكاتوري المصور البارع سذاجة، وبساطة وقوة وعزما وعقيدة. هذه الشخصية هي عبارة عن كاريكاتور للإنسان العربي الساذج الذي يخاف ويعادي كل ما يجهله بل ويحاربه بكل ما أوتي به من عزم وقوة. هو الإنسان العربي الاندفاعي، الذي يفتقر للمرونة والليونة وحسن المجاملة. هو الإنسان العربي الدائم الخوف على ممتلكاته، فترى بيرم التونسي يلوح لنا بالخوف الذي يلازم بخيت حين يشعر بالوسواس، والتطير والخوف. أضف إلى ذلك أنه يمثل الإنسان السريع الحكم على من حوله : فتراه يحكم على المتفرجين حكما سريعا ظالما قبل حتى أن يتعرف إليهم. وتظهر لنا نظرته التشاؤمية : فهو لا يتصور أن يجتمع الناس على غير حرب أو مائدة. كما أنه يمثل الاندفاع والانفعال في حكمه السريع على « الجماعة » فينعتهم « بالأشقياء المجانين ».
ويمثل بخيت بن وعلان الإنسان العربي بمعتقداته الراسخة التي لا يمكن تبديلها أو اقتلاعها بسهولة، فالعربي عادة ما يكون ضحية معتقداته، هي يقينه، مبدؤه، لا يمكن أن يحيد عنه مهما بلغ الأمر، ولو كلفه ذلك حياته. أضف إلى ذلك أن معتقداته مرتبطة ارتباطا وثيقا بالدين الإسلامي وكل معالمه، نظرا لتشبث المجتمعات العربية آنذاك بالتعاليم : « بسم العزيز القاهر الديان، العرش، الكرسي, سبع مرات، أول القرآن، الميزان، الكتاب… » كما أن إصراره على الرقم سبعة، وهو رقم مبارك، يرمز إلى مدى تشبثه بالقول الفصل والكلام المبين.
هو إنسان رافض للجو العربي المستغرب، ومن دعاة العودة العربية، الإسلامية التي ترفض كل معالم التطور والتقدم المستوردة، فيمزج بين السحر والعفاريت والشياطين والشعوذة، وبين التقنيات والآليات السينماتوغرافية الحديثة محاولا تدميرها. وهنا أود أن أوجه عتابا إلى شيخنا المبجل، إن الديانات كلها، والدين الإسلامي خاصة، يدعو إلى قبول كل تطور وتقدم، إذا كان يخدم الإنسان والإنسانية. لا مندوحة أن كل جديد يقابل بالرفض في البدء، ولكن علينا مواكبة التيار مع احترام الأخلاق وتعاليم الدين، والأسس التربوية المتينة التي نشأنا عليها ألم يقل تعالى في كتابه الكريم : »عّلم الإنسان ما لم يعلم ».
ولإتمام لوحته وإنقاذها، توسل بيرم التونسي في فبركته الكاريكاتورية الأسلوب اللاذع الساخر المسجع الذي يشد الأذهان، ويشنف الآذان، ويولد لدى القراء القبول والاستحسان. ويبدأ بخيت بن وعلان بمخاطبتنا بأسلوب الفصيح البليغ، الضليع في القرآن الكريم : « ليأخذنني »، كما يسعى أيضا إلى تضميم وتعريب كلمة أجنبية : « سينماء ». وجلي في هذا النص ثقافة الشيخ بخيت الدينية : « مردة, عتاة… ». وما يثير الضحك هو إقرانه هذه المفردات الدينية المضخمة، بموقف لا يستحق كل هذا.
كما يكمن الكاريكاتور الكوميدي في اللعب على الكلمات : « تركت » و »الانتراكت ». ومن ناحية الأسلوب أيضا، نلاحظ رشاقة الجمل، فالكاتب يبدو وكأنه بهلوان يلعب بكل رشاقة وديناميكية بالجمل، فجاءت طبيعية تخلو من كل تكلف وصناعة.
وتتضح فكرة فن المقامة بعد قراءة هذا النص فهو فن أدبي يقوم على رواية عظة في مجتمع الناس. والعظة هنا أن المشعوذات والتقنيات الحديثة لا يقترنان, وأن على الإنسان ألا يعادي ما يجهله, بل أن يطلع عليه بكل موضوعية ثم يحكم عليه بكل شفافية ووضوح.
وأخيرا يوقظ بيرم التونسي في نفوسنا صورة الإنسان العربي الساذج الذي عادة ما يأخذه الطوفان، لعدم قبوله بأي ثورة تجديدية، أو أي تطور. وهو من خلال هذا النص يسعى لإيصال رسالة إصلاح إلى المجتمع العربي أنى كان وأينما كان، رسالة يمتد صداها إلى الإنسان العربي في يومنا هذا. كفانا سذاجة، وهلموا لننطلق غي سماء الحضارة والتطور، لنختار ما يناسبنا، ولنرفض ما يعاكس مجريات حياتنا ومعتقداتنا، وتقاليدنا الراسخة التي نعتز بها.
حذار بني دمي، إن سذاجتنا وضعفنا، ورفضنا أن نسبر أغوار ما نجهله سيفقدنا الحكم على الأمور، وعندها ابسموا ثغرا. وأخيرا لا يعني إلا أن أقول للشيخ وعلان :
« يا شيخ وعلان، صحيح إن ما كل ما يعلن بيان، وما كل ما يرى برهان، ولكن ما كل ما نراه بهتان، لذا عليك بالعقل، فهو الحكم الفصل، والرأي العدل، ولا تخف من الدخول في مجاهل الأمور، والتعمق في غياهب البحور، فليس كل مجهول زنديق، لربما كان خير صديق، والسبيل إلى كل حق وحقيق. وصدق الله العظيم في كتابه الكريم : « قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ».